الاثنين، 4 مارس 2013

الحديث عن الفقد


دائما ، كنت أتمني وكثيراً لو أموت قبل أن أفقد أيّ أحد .. قبل أن أفقد أحداً في الحياة وأراهُ بعيداً عني، لا أستطيع الوصول إليه ولا الحديث معه .. أخشى الفقد كثيراً، ترعبني لحظة تخيل فقد أحد من أفراد عائلتي أو أصدقائي (أطال الله في عمرهم جميعاً) .

*************************

منذ أسابيع مضت كان قد قرروا أخوالي بيع منزل جدتي وجدي (رحمهم الله) ، أتذكر تضايق أمي الشديد رغم محاولة إخفاءها للأمر ، الا ان ذلك كان واضحا جدا في ملامح وجهها ونبرة صوتها عند الحديث في الموضوع ، فهي التي آلمها الأمر كثيراً ، تري في ذلك بيع لذكريات الطفولة ورائحة عطر جدتي التي تعم المنزل وصوت جدي الذي لايزال صداه حتي بعد وفاته .

*************************

أمي التي قررت عدم الذهاب إلي المنزل ورأيته بعد إجراء الصيانة له ، كانت تود الإحتفاظ به في ذاكرتها بصورته المعتادة ، ألوان جدرانه وأثاثه الذي قلّما تغير مكانه أو تجديده ، التحف القليلة الي حفظنا مكانها عن ظهر قلب دون أن نلمسها خوفا من كسرها لغُلوّي ثمنها . شُجيراته التي كانت تعتني بها جدتي كثيراً كأطفالها وأجبرتنا علي الإعتناء بها أيضاً ، زواياه وكل تفصيل صغير من مساحته المتواضعة المرتبة جيداً.

*************************

برغم المرض الذي شلّ حركتها ولسانها 8 سنوات قبل وفاتها ، إلا أنني أذكرها جيداً سواد عينيها وشعرها الأحمر الطويل التي كانت تعتني به كثيراّ .

جدتي التي كان الجميع يحسب لها ألف حساب لقوة شخصيتها وحكمتها ورجاحة عقلها ورأيها ، كلماتها الحكيمة وأسلوبها المقنع ، فهي التي لم تتعلم القرأة والكتابة لكنها كانت ذكية جدا ، عاشت في بيئة بدوية علمتها الصبر والاخلاق والدين .

لي جدتي كل شي له قواعده وقوانينه والويل لمن يخترقها ، إستقاظها في الصباح الباكر جداّ رغم السبعين عاما التي تحملها تدب الحياة في أرجاء المنزل بحركتها التي لا تهدأ الإ بحلول الظلام ، بساطتها التي تحطيها بدءاً بالكانون وبراد الشاي والزميطة والحلوة التي لاتخلو من دولابها تُشعرك بالأمان والطمأنينة .

لأكن صادقة لم أكن أحب المبيت لديها ، بسبب قواعدها الصارمة إلا انني كثيرا وكثيرا ما أفعل ، برغم ذلك فقد كانت تحمل الطيبة في قلبها وحبها لي أحفادها ، أذكر إلتفافنا حولها في ليالي الشتاء لي تروي لنا الحكايات لا يهم كم من المرّات كانت تحكيها .. فقط كنا نبتسم ونضحك في نفس الجزء المضحك من القصة .. في كل مرّة، كانت تحب ذلك .. كانت تستمتع وهي تحكي لنا عن ماضيها وأيامها القديمة وبساطة حياتهم وإختلافها عن الحياة الآن ، أذكر صوتها وهي تُملي علينا نصائحها ومواعظها وتحذرنا عمّا قد يواجهنا من مصاعب في الحياة .

*************************

بعد إلحاح خالي عبد الحكيم علي أمي للذهاب إلي المنزل ورأيته بعد الصيانة وتغيير شكله وهم أيضا يريدون أن يفرغوا أثاثه قبل بيعه . تذهب أمي كل صباح خالية من كل شئ لتعود مساءا وهي محمّلة بالذكريات مثقلة بالحنين والإشتياق .
تعود للمنزل وفي جعبتها الكثير من القصص والحكايات والمواقف التي تتذكرها بصمت هناك وترويها لنا عند عودتها ليلاً .
تذهب أمي لتفرغ البيت من أثاثه لتقوم بتنظيفه وترتيبه وهي لا تدري أنها في ذات الوقت أيضا تقوم بنكث ذاكرتها وتعيد ترتيب ذكرياتها .

*************************

حديثي عنها الآن هو أن اليوم 4-3 يُعلن عن مرور سنة لوفاتها (رحمها الله) .

 اللهم اغفر لجدتي, و ارحمها ، و عافها ، و اعف عنها ، و أكرم نزلها ، و وسع مدخلها ، و اغسلها بالماء و الثلج و البرد ، و نقها من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، و أبدلها داراً خيراً من دارها ، و أدخلها الجنة ، و أعذها من عذاب القبر و من عذاب النار ، اللهم اغفر لها ، و ارفع درجتها في المهديين ، و اخلفها في عقبها في الغابرين ، وا غفر لنا ولها يا رب العالمين.


هناك 6 تعليقات :

  1. الله يرحمها ...يا شريرة دموعي نزلوا...بس ندكر انها توفت في شهر2

    ردحذف
  2. اليوم 4-3 توفت (الله يرحمها) مش شهر 2 .

    ردحذف
  3. الله يرحمهاو يغفرلها.

    ردحذف
  4. شكرا لكلماتك ومشاعرك
    هيكارو

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك هيكارو ولي مرورك الطيب .. أهلا بك بين خربشاتي

      حذف
  5. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف